
كلمة العدد 1443.. “المعاني في فوز زهران ممداني”

قبل عام، كان زهران ممداني شبه مجهول، شاب في الرابعة والثلاثين من عمره، مغني راب سابق تجول بين الناس يطرق الأبواب ويتحدث لعمال
الليل والمصلين على أبواب الكنائس يحمل أفكارًا وشعارًا بسيطًا هو (القدرة على التحمل) أي جعل الحياة ممكنة في مدينة تجارية وأفكاره
شبيهة لأفكار بعض الفلاسفة، وقد يكون قدم تعريفا جديدًا للسياسة بأنها ليست لإدارة الأزمة فقط، بل هي مقاومة البؤس الإنساني أيضا فما هي قصة زهران ممداني ؟؟؟
هل هو إسلامي ام شخص يسعى لأستغلال الناخبين المسلمين في نيويورك لإغراضه الانتخابية، لكنك عندما تستعرض مسيرته أولا كمغني راب وتراه يلتقط صورًا مع زوجته المرتدية فستان مفتوح يصعب عليك وصفه بالمسلم المتشدد، حيث المتشددين يرون في الموسيقى حرام والحجاب فرض على النساء ولكنها قد تكون (تقية) على طريقة استراتيجية الإخوان التي تقوم على الزوبان في ثقافة الآخر والتغلغل فيها حتى هضمها وابتلاعها من الداخل، ومن المستغرب أنه يفوز في مدينة نيويورك التي هزتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر وموطن أكبر جالية يهودية في العالم خارج إسرائيل، كيف لها أن تختار إبن مهاجرين هنديين مسلمين عمده لها ؟؟
ولكنه ليس مثل المهاجرين الهاربين من الفقر والجهل في أوطانهم، فالأب أستاذ جامعي والأم مخرجة سينمائية ونيويورك الآن تشهد لحظة تعب وجودي وتبحث عن معنى جديد للحياة في زمن قلت فيه المعاني، فلم يكن فوز زهران ممداني حدثا انتخابيًا عابرًا، بل أشارة إلى تحول أعمق مع وعي في ذاته وفي رؤيته للآخر.
هذا الغرب الذي اعتدنا على رؤيته كيان متماسك صلب يكشف من جديد عن هشاشته الداخلية وصراعه المستمر بين العدالة ورأس المال بين الامتياز الاجتماعي وحق التمثيل بين الهيمنة وحلم المساواه………
فوز زهران ممداني لا يفهم إلا في سياق التحولات التي يشهدها الغرب يجسد فيها دونالد ترامب النزعة الليبرالية المتطرفة ويجسد فيها ممداني ردا إنسانيًا على تغول المال وإحياءًا لفكرة أن السياسة يمكن أن تكون فعلا أخلاقيًا، حيث لعبت حرب غزة دورًا حاسمًا في ترجيح كفته وخطابه الناقد لإسرائيل، كان صدى لضمير جمعي، بدأ يستيقظ على التناقضات.
هذا الفوز يقدم دليلا جديدًا على أن الديمقراطية هي أفضل نظام ممكن للحكم، فهي تطور وتجدد نفسها وتعيد إنتاج توازنها عبر التناقض …..
فوز ممداني في جوهره ليس انتصارًا لمسلم أو اشتراكي، بل هو انتصارًا لفكرة مفادها أن السياسة يمكن أن تعود إلى أصلها الفلسفي بوصفها فعلا من أجل الإنسان لا ضده ولكنها أيضًا تعيد إلى الأذهان معنى عظيم، بأن الغرب، رغم عيوبه، مازال يمتلك شجاعة مواجهة ذاته، بينما نحن في عالمنا العربي نخاف من أن نبدأ في طرح الأسئلة.
ولكم تحياتي
محمود صلاح قطامش




